المطران عودة: لبنان لا يُبنى بتفرد أحد

اخر الاخبار
23-11-2025 |  01:10 PM
المطران عودة: لبنان لا يُبنى بتفرد أحد
190 views
Source:
-
|
+
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس. وبعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "تدخلنا الكنيسة اليوم، عبر الرسالة والإنجيل، إلى سر وحدة الإنسان مع الله، ووحدة الناس بعضهم مع بعض، وإلى الحقيقة العميقة التي تعطي الوجود معناه، وتجعل القلب مهيأ لميراث الملكوت. يقول الرسول بولس: «إن المسيح هو سلامنا، هو جعل الإثنين واحدا، ونقض في جسده حائط السياج الحاجز أي العداوة»، ويضيف: «وقد بنيتم على أساس الرسل والأنبياء وحجر الزاوية هو يسوع المسيح نفسه». أما الرب في الإنجيل فيعطينا مثل الغني الغبي الذي قال في قلبه: «يا نفس، إن لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة فاستريحي وكلي واشربي وافرحي»، فسمع جواب الله القاطع: «يا جاهل، في هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون؟».

أضاف: "الرابط بين النصين هو اكتشاف الإنسان لموضعه الحقيقي، فإما أن يؤسس ذاته على حجر الزاوية فيصير مسكنا لله بالروح، أو يبني آماله على خزائن زائلة فيصير القلب فارغا مهما امتلأت المخازن. الإنسان تائه بين طريقين، طريق الله المؤدي إلى الحياة، وطريق الأنانية والكبرياء المؤدي إلى موت يفاجئ الإنسان عند لحظة الحقيقة. حين يقول الرسول بولس: «هو سلامنا»، لا يتحدث عن راحة نفسية عابرة، إنما عن سر مصالحة الإنسان مع الله الذي نقض الحاجز الذي بنته الخطيئة والإنقسام. السلام هنا ليس فكرة بل شخص كما يقول القديس باسيليوس الكبير: «السلام ليس حالة في النفس بل هو المسيح نفسه، الذي يدخل النفس في النور، فتعود إلى أصلها». لذلك نحن لا نبحث عن السلام كأمر خارجي، بل نبحث عن المسيح الذي يصنع من القلب هيكلا، ومن حياتنا حجارة حية في بناء مقدس. من هنا نفهم لماذا نعت الرب الغني بالجاهل. فهو لم يكن جاهلا بالمعنى العقلي بل روحيا. عرف كيف يزرع ويحصد ويكدس، لكنه لم يعرف كيف يضع حجر الزاوية في حياته. قال القديس يوحنا الذهبي الفم: «لم يدع الغني غبيا لأنه جمع الغلال بل لأنه لم يعرف أن يقسمها». مشكلته لم تكن الغنى، لكن الغنى صار معبده، ومخازنه صارت أساسه، ونفسه صارت عبدة لما كانت تظنه ضمانا. لقد بنى بناء بلا أساس".

وتابع: "الإنجيل لا يدين الغنى في ذاته، بل يدين الغنى غير المؤسس على تعاليم المسيح. في المقابل، يتحدث الرسول بولس عن بناء آخر سماوي، أساسه الرسل والأنبياء، وحجر زاويته الرب. هنا، تتجلى الحكمة الإلهية، فثمة غنى يخدر النفس ويملأ المخازن ويعد بسعادة زائفة، وغنى آخر يبني النفس ويملأ القلب ويفتح أبواب الأبدية. الوحدة التي يكلمنا عليها الرسول ليست إجتماعية فقط، بل وجودية، أي أن يصير الإنسان متحدا بالمسيح، مرتبطا به كالرأس بالجسد، وبذلك يتحول من شخص يخزن لنفسه إلى شخص يشترك في حياة الله. يقول القديس غريغوريوس النيصصي: «من يفتش عن ذاته خارج الله يضيع، ومن يفتش عن الله يجد ذاته». غني المثل بحث عن ذاته في ذاته، ففقد ذاته. أما الإنسان الذي يبني على حجر الزاوية، فيبحث عن ذاته في الله، ويجدها مملوءة نورا وسلاما. يعلمنا الرسول أن المسيح ليس فقط من يهدم الحاجز، بل هو أيضا من يبني. يهدم الجدار الذي فصل الإنسان عن الله، ويبني الإنسان في هيكل جديد. الباطل يهدم والحق يبنى، وكل حياتنا الروحية تقوم على هذين الفعلين، أي هدم الحاجز وبناء القلب مسكنا لله".

وقال: "هذا البناء يتم من الداخل إلى الخارج. قد يكون الإنسان فقيرا ولا يملك مخازن ولا غلالا، لكنه يملك قلبا مليئا بالله، فيكون أغنى من الغني الغبي. يقول القديس إسحق السرياني: «الغني الحقيقي هو من اكتفى بالله، لأنه يمتلك من يمتلك كل شيء». إذا لم يربط الغنى الزمني بالله يصبح عبئا، أما الفقر المتواضع فإذا ارتبط بالله يصير كنزا. من هنا العبرة من مثل الغني: «هكذا من يدخر لنفسه ولا يستغني بالله». فالمشكلة ليست في الكنز بل في الوجهة التي يوجه إليها الكنز. يذكرنا الرسول أيضا بأن البناء الذي ينشئه المسيح فينا لا يقصد به الفرد وحده، بل الكنيسة. فالمسيحي لا يخلص بمفرده إنما مع الجماعة، في الشركة والجسد الواحد. لذا نقول في القداس الإلهي: « لنودع أنفسنا وبعضنا بعضا وكل حياتنا للمسيح الإله». الغني كان وحيدا، يخاطب نفسه ويطمئنها. لم يكن له لا فقير يشاركه، ولا أخ يتعزى به، ولا إله يؤسس عليه. الوحدة المتمركزة حول الذات تقود إلى الموت الروحي، أما الكنيسة فهي شركة المؤمنين وجسد المسيح. قال القديس كيرلس الإسكندري: «من يعيش لذاته يموت في ذاته، ومن يحيا للمسيح يحيا بالذين للمسيح». الحياة المسيحية خروج من الذات وانفتاح على الله، وانسياب نحو الآخر بالمحبة. الغني أغلق أبواب مخازنه وقلبه فأغلقت أمامه أبواب السماء. أما الإنسان الذي يبنى على حجر الزاوية فيفتح قلبه ويفتح الله أمامه أبواب الأبدية".

أضاف: "هذا ينطبق على الحياة في الوطن. المواطن لا يعيش بمفرده في وطنه بل مع الآخرين، يتشاركون أرضا واحدة، تحميهم دولة واحدة، ويذود عنهم جيش واحد. فإذا ما انفرد جزء من المواطنين عن الآخرين يختل التوازن وتتفكك الدولة. هذا ما عايشناه مرارا في تاريخ هذا الوطن ولم نتعلم. وهذا ما أدى إلى كوارث وحروب في حياة لبنان. متى يعي اللبنانيون أن في استقواء واحدهم على الآخر، أو تفرد حزب أو طائفة أو دين أو جماعة في اتخاذ القرارات عن الجميع خراب للوطن. إستقواء طرف على الآخرين، أو جموح حزب عن إرادة الجماعة، أو خروج فئة على سلطة الدولة لا يبني وطنا ولا يمنح المنشقين عن الجماعة مكانة ولا ديمومة. التاريخ شاهد على اضمحلال هؤلاء الذين يشبهون غني مثل اليوم الذي جمع الغلال ومات دون التمتع بها، عوض الإستظلال بتعاليم الله والعمل بهديها. الدواء الوحيد أن لا يلتفت المواطن إلى مصالحه ويبني لذاته، عوض أن ينضوي في كنف الدولة ويتشارك مع الآخرين المصير فتكون حياته مبنية على أساس صلب لا يتزعزع".

وختم: "فلنسأل ذواتنا على أي أساس نبني؟ ما هو الحجر الذي يستند إليه وجودنا؟ ما هو الكنز الذي نبحث عنه؟ هل نحن من الذين يكنزون لأنفسهم أم من الذين يغتنون بالله؟ فلننظر إلى داخلنا بصدق، ولنطلب إلى المسيح أن يهدم ما بناه الكبرياء والخوف والعداوة، وأن يقيم فينا البناء الجديد الذي تتحول فيه الحياة كلها إلى هيكل حي ترفع فيه صلاة القلب بلا انقطاع. صلاتنا اليوم، وقد احتفلنا بالأمس بذكرى الإستقلال، أن يحفظ الرب لبنان بلدا سيدا، حرا، مستقلا، موحدا ومشعا، وأن يحفظ اللبنانيين الساعين بصدق إلى خير بلدهم ووحدته وديمومته والحفاظ على استقلاله".

يلفت موقع "اخر الاخبار" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره