الراعي: لا يُبنى وطن بالسلاح أو الشعارات أو التحديات
|
|
اخر الاخبار
|
|
|
|
|
|
|
|
أشار البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى أن الاستقلال ليس زينة أعلام ولا احتفالات عابرة فقط، بل هو وعد وطني يتجدّد كل عام.
ترأس البطريرك الماروني قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي ومشاركة عدد من المطارنة والكهنة والراهبات وحشد من الفعاليات والمؤمنين.
بعد تلاوة الإنجيل المقدس، القى الراعي عظة بعنوان:""ها أنا أمة الرّب، فليكن لي بحسب قولك" (لو 38:1)، قال فيها: "في هذا الأحد الثاني من زمن الميلاد، أو المجيء، تحتفل الكنيسة ببشارة الملاك جبرائيل لمريم فتاة الناصرة المخطوبة ليوسف، فبعد أن بلّغها الدعوة الإلهية بأن تكون أمًّا لابن الله العلي، بقوة الروح القدس، أجابت: "ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38). بشارة العذراء هي افتتاح زمن جديد، وبداية تاريخ جديد، فيه يعتلن سرّ تجسّد الكلمة الإلهي. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا للاحتفال معًا بهذه الليتورجيّا الإلهية، ولالتماس نعمة الله، وشفاعة مريم العذراء، للإصغاء مثلها، ولحفظ أرضنا ونشر السلام في بيوتنا وقلوبنا. مريم هي "الممتلئة نعمة" لأنها نالت منذ اللحظة الأولى لتكوينها في حشا أمّها، العصمة من الخطيئة الأصلية الموروثة من أبوينا الأولين آدم وحواء، استعدادًا، وفقًا لتدبير الله الخلاصي، لتكون والدة مخلص العالم وفادي الإنسان. وبكلمتها: "أنا أمة الرب" بدأ التاريخ الجديد، وبدأ العهد الجديد الذي بدّل وجه البشرية. إنّ كل شيء يبدأ من القبول. هكذا كان قبول مريم: قبولٌ حر، واعٍ، ناضج، يعرف أن الرسالة ليست سهلة، وأن الطريق يحمل صليبًا قبل أن يحمل مجدًا. بهذا القبول، نالت النعمة، وانتقل التاريخ من الانتظار الطويل إلى بداية الخلاص. في هذه اللحظة صار رحم مريم المكان الذي حلّت فيه كلمة الله، كما تحلّ اليوم في قلوبنا حين نصغي بصدق.
البشارة لحظة جمال لا يوصف، لحظة يلتقي فيها الروح القدس بالبشرية، لحظة تنفتح فيها الأرض على السماء. إنّ كلمة الله لا تستقرّ إلا في قلوب نقيّة، كما استقرّت في مريم العذراء".
وتابع: "في الليتورجيا، نقرأ إنجيل البشارة كحدث يتجدّد في قلب كلّ مؤمن. فالروح القدس الذي حلّ على مريم، يحلّ اليوم في الجماعة التي تجتمع للصلاة، والكلمة التي تجسدت في أحشائها، تتجسّد روحيًا في حياتنا عندما نقبلها بصدق.
هنا تظهر قيمة "نعم" مريم، فهي ليست فعلًا بشريًا فقط، بل هي بابٌ فتحه الإنسان لله، فدخل الله من خلاله إلى التاريخ. وهكذا يصبح كلّ مؤمن مدعوًا أن يقول: "ليكن لي بحسب قولك" ليس بالكلام بل بمسار حياة. فالقداس هو مدرسة "النَعم". نقول "آمين" في نهاية كل صلاة، وهذه "الآمين" هي الطبيعة الروحية لكلمة "نعم". هي قبول، وثقة، وتسليم. ومن لا يفتح قلبه لا يدخل الله إلى حياته. ومن لا يقبل لا يستطيع أن يتغيّر. لبنان اليوم يحتاج إلى مسؤولين وإلى شعب قادر أن يقول "نعم" للخير العام، "نعم" للحق، "نعم" لبناء دولة عادلة، "نعم" لانطلاقة جديدة رغم التعب، "نعم" للوحدة بدل الانقسام، وللرجاء بدل اليأس. فالوطن الذي قال كلمته بوضوح يعرف أن ينهض، والوطن الذي يقبل الحقيقة لا يمكن أن يبقى في الظلمة، والوطن الذي يفتح باب الضمير يستطيع أن يولد من جديد. كما كانت بشارة مريم انتقالًا من الانتظار إلى الولادة، لبنان اليوم بحاجة إلى أن ينتقل من الأزمات المتراكمة إلى نهضة جديدة، من الشلل السياسي إلى قرار شجاع، من الصراع إلى تعاون، ومن الخوف إلى الرجاء. البشارة تقول لنا إن كلّ تغيير يبدأ من الداخل، من القلب الذي يترك لله مكانًا ليعمل. فلتكن هذه البشارة دعوة إلى وطننا ليجد هويته من جديد، وليعرف أن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، من ضمير حيّ، ومن قدرة على أن نقول: "ليكن لوطننا بحسب مشيئة الحقّ، لا بحسب مصالح البشر. كثيرون يسمعون صراخ الوطن، لكنّ قلة تقبل أن تحمل الرسالة كما حملتها مريم. لبنان يحتاج اليوم إلى رجال ونساء يقولون: «نحن مستعدّون، نحن خدام الخير العام.» إن الخلاص لا يأتي بالقوّة، بل بالنعمة. لا يُبنى وطن بالسلاح أو الشعارات أو التحديات، بل بعمل داخلي يشبه عمل الروح القدس في مريم: هادئ، عميق، ثابت، ومُبدّل للحياة. إنّ النهاية الجديدة تبدأ من لحظة قبول بسيطة. كلمة واحدة من مريم غيّرت التاريخ: «ليكن لي حسب قولك.» كلمة صدق واحدة في السياسة تكفي لفتح أبواب الخلاص الوطني".
وختم الراعي: "احتفل لبنان بالأمس بعيد استقلاله الثاني والثمانين، وهو اليوم الذي استعاد فيه الوطن كرامته وسيادته وحقّه في أن يكتب مستقبله بيده. ليس الاستقلال زينة أعلام ولا احتفالات عابرة فقط، بل هو وعد وطني يتجدّد كل عام: وعد بأن هذه الأرض لم تولد للظلام، بل للنور؛ وبأن هذا الشعب لم يُخلق للانقسام، بل ليكون واحدًا؛ وبأن لبنان، رغم جراحه، قادر أن يبدأ من جديد إذا اجتمع أبناؤه حول إرادة صادقة. عيد الاستقلال بالأمس يحمل في جوهره الرسالة ذاتها التي ظهرت يوم الناصرة: رسالة تقول إن الله قادر أن يصنع بداية جديدة من قلب البساطة، وإن التغيير الحقيقي يبدأ حين يقول الإنسان "ها أنا" أمام مسؤوليته. كما حملت مريم مشروع الله إلى العالم، يحمل اللبنانيون اليوم مشروع وطن ينهض من تحت الركام، إذا اختاروا أن يلتزموا بحقيقته وهويته ورسالة وجوده. لبنان يحتاج اليوم إلى تلك الشجاعة الهادئة التي ظهرت في قلب العذراء: شجاعة تُحوّل الخوف إلى ثقة، والتردد إلى فعل، والألم إلى رجاء. لنصلِّ، أيها الإخوة والأخوات، لكي يمنحنا الله، بشفاعة أمنا مريم العذراء، أن نصغي مثلها إلى كلمة الله، ونقبلها في قلوبنا، فتأتي ثمارها الوفيرة، رافعين المجد لله، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين".
|
|
|
|
|
|
يلفت موقع "اخر الاخبار" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره
|
|
|
|