فوضى "هيئة الأسواق" تعكس واقع الاستثمار

اقتصاد
30-4-2024 |  05:15 PM
فوضى "هيئة الأسواق" تعكس واقع الاستثمار
1875 views
Source:
-
|
+

قبل نحو عام، أشرنا في "الصفا نيوز" في مقال عنوانه "هيئة الأسواق المالية مؤسسة نموذجية تلتحق بركب التعطيل المُمنهج"، إلى أنّ إحجام "الهيئة" عن الترخيص للمؤسّسات المالية سيدفع بالمستثمرين إلى "تقديم" ملفّات تراخيص من دول مجاورة كقبرص أو الإمارات أو حتّى بريطانيا، والاستحصال على تراخيص ذات صدقية، إذ يتمّ الترخيص بمعايير أعلى لدى اكتمال ملفّ طالب الترخيص واستيفائه الشروط والمؤهلات المطلوبة، من دون تدخّل السياسة والمحسوبيات" أو "شراء" تراخيص من بعض الجنّات الضرائبية كجزر القمر أو جزر السيشل أو بعض البلدان الإفريقية، أو حتّى العمل من دون أيّة تراخيص.

وهذا ما حصل. واليوم تعود السلطة نفسها التي عطّلت كلّ المرافق لتطارد هذه الشركات من دون أدنى معرفة ببديهيات الأسواق المالية من الناحية التقنية، وكيفية عمل الأسواق، وطرق ربطها بالمستثمرين. وذلك في ظلّ غياب أو تغييب المحكمة المالية ولجنة العقوبات اللتين نصّ عليهما نظام إنشاء هيئة الأسواق المالية.

هل يُعتبر مخالفاً كلّ من لا يملك ترخيصاً محلياً؟

ما حصل هو أنّ جهاز أمن الدولة، تحت إشراف النيابة العامّة المالية، لاحق خلال الأسبوعين الماضيين مجموعة من الشركات، بعضها يملك تراخيص "أوفشور" من جنّات ضرائبية، والبعض الآخر من دون ترخيص، إضافةً إلى ملاحقة شركات تملك ترخيصاً من الاتحاد الأوروبي من الفئة الأعلى لدى هيئة ESMA الناظمة. تربط تلك الشركات عملاءها بمنصّات تداول لمصارف ومؤسسات مالية عالمية مراسلة عبر شركة تكنولوجيا مالية (Services FinTech)، منها على سبيل الذكر لا الحصر MetaQuotes Corp ltd. إذ يقوم هؤلاء العملاء بتداول الأسهم والسندات المالية والعملات مباشرةً وخارج لبنان. وعلى هذا الأساس، أتت اتهامات أمن الدولة لبعض الشركات بالعمل من دون ترخيص، وبالتلاعب بالحسابات والتسبب بخسارة أموال المتداولين للبعض الثاني واعتماد مبدأ "الجارور" للبعض الثالث وعدم تثبيت عمليات زبائنه، بل أخذها على عاتقه. وباستثناء بعض المتداولين أو المكاتب التي تعمل من دون ترخيص، فإنّ بقية الشركات تملك تراخيص تتفاوت بين الأقلّ أهمية وقيمة كتراخيص الجنّات الضرائبية والأعلى من حيث الفئة والقيمة كتراخيص الدول الأوروبية.

وهنا يكمن لبّ السؤال: هل يُعتبر عمل هذه المؤسسات مخالفاً؟ وهل تُعتبر تلك المخالفات ذات أهمية كبيرة أو هي مجرّد مخالفة لقوانين وأنظمة تجاوزها الزمن، وهي بحاجة إلى تعديل وتطوير لكي تجاري التقدّم الحاصل في مجال تكنولوجيا المال ووسائل الدفع والمحافظ الالكترونية.

إنّ ما يثار في القضاء، اليوم، وتحديداً بحق الشركات المرخصة في الخارج، يمكن إعادته إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

السبب الرئيسي الأول يتعلّق بالهامش والحدّ الأدنى لفتح الحساب الابتدائي للتداول بحسب معايير NFA الأميركية، التي اعتُمدت في العام 2011 تاريخ دخول قانون إنشاء هذه الأسواق المالية حيزّ التنفيذ. إذ عندما تأسست "الهيئة" كانت هناك وجهتا نظر:

الأولى تقترح اتباع الأنظمة الأوروبية بدفع من وحدة الرقابة على الأسواق المالية تبعاّ لقواعد هيئة السلوك المالي – FCA:Financial Conduct Authority UK وهي هيئة تنظيمية مالية في المملكة المتحدة تعمل بشكل مستقلّ عن حكومة المملكة المتحدة وتُموّل عن طريق فرض رسوم على أعضاء صناعة الخدمات المالية. وأجبرت الشركات المالية اللبنانية عند التعاقد مع المصارف المراسلة أو المؤسسات المالية المراسلة، أن تتبع الأنظمة الأوروبية ESMA/MiFID وأنظمة المملكة المتحدة FCA.

الثانية تقترح اتّباع الانظمة الأميركية بدفع من رئيس هيئة الأسواق المالية الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة الآتي من خلفية عمله كمتداول في شركة "ميرل لينش".

الفرق بين النموذجين كبير جداً

معلوم أن الأنظمة الرقابية الأوروبية MiFID/ ESMA تفرض متطلّبات هامش 1/30 عند القيام بعمليات التداول لغير المحترفين (عملاء التجزئة، أي أنّ على الشركة أن تجمّد مثلاً دولاراً واحداً للتداول بمبلغ 30 دولاراً)، ومتطلبات هامش 1/50(2%) للمحترفين، بينما مارس الحاكم بصفته رئيس هيئة الأسواق المالية، ضغوطاً لاعتماد أنظمة الرابطة الوطنية للعقود الآجلة الأميركية NFA، وهي منظمة ذاتية التنظيم لصناعة المشتقّات الأمريكية، بما في ذلك العقود الآجلة المتداولة في البورصة، والعملات الأجنبية بالتجزئة خارج البورصة، ومشتقّات خارج البورصة، والتي تفرض متطلّبات هامش 1/20 على التداول. أي تجميد دولار واحد للتداول بمبلغ 20 دولاراً. وهذه المتطلّبات كبيرة، فليس ثمة مستثمر، وبالأخصّ مضارب، كبيراً كان أم صغيراً، يوافق على تجميد هذا الهامش للتداول. ولهذا اتجهت غالبية الهيئات الناظمة في الدول، وكبار شركات التداول العالمية إلى العمل تحت جناح الأنظمة الأوروبية من خلال إنشاء شركات الأوفشور في الجنات الضرائبية CommonWealth Members أو الترخيص في دول أوروبا وقبرص والمملكة المتحدة وأستراليا.

في موازاة ذلك، فرض الحاكم السابق اعتماد الحدّ الأدنى المطلوب لفتح الحساب الابتدائي للتداول بحسب المعايير الأميركية أيضاً. وعليه، عيّن الحدّ الأدنى بـ 10 آلاف دولار. فيما كانت المعايير الأوروبية تتيح بدء التداول بأيّ مبلغ. وهذه النقطة الثانية شجّعت الشركات المالية على اتباع الأنظمة الأوروبية في عمليات التداول.

المشكلة أنّ هذا الخلاف في وجهات النظر بين الحاكم ووحدة التدقيق الداخلي في هيئة الأسواق المالية، تمّت تسويته بشكل مشوّه، فاتّبع لبنان بعض أنظمة الأسواق المالية بحسب المعايير الاوروبية ESMA/MiFID، فيما بقي الامتثال لهامش التداول والحدّ الأدنى المطلوب للبدء بالتداول بحسب المعايير الأميركية. وهذا ما خلّف الكثير من التناقضات، وبدأت تظهر مفاعيله اليوم بملاحقة الشركات المرخصة في الخارج، والتي تتعامل بحسب المعايير الأوروبية المعتمدة عالمياً.

مع العلم أنّ الشركات اللبنانية المرخّصة ملزمة بإجراء دورات تدريبية لموظّفيها والمتداولين لديها ونيل شهادات تثبت التزامها المعايير التي تنصّ عليها FCA CISI Certifications، فكيف يعقل أن يدرّس الموظف المسجل لدى هيئة الأسواق المالية اللبنانية الشهادات المرتبطة بقوانين المملكة المتحدة ويُجبر على تطبيق المعايير الأميركية؟!

التكنولوجيا المستخدمة في الشركات المالية

النقطة الأخرى التي تثار هي التكنولوجيا المستخدمة في الشركات المالية التي تعمل وفق واحد من أهمّ برامج البورصة وأشهرها هو MetaQuotes Corp ltd. إلّا أنّ ثمّة شركات تستعين بهذا البرنامج، لكنها لا تشغّله ليس لدواعٍ مالية، إنّما لدواعٍ تقنية. وذلك مثل أيّ نظام محاسبي عادي. ويجب هنا التفرقة بين برنامج التداول الألكتروني وبرنامج مالي تحصل العمليات بموجب الرخصة الموضوعة عليه.

صانع السوق (الجارور)

من المسائل المثارة في القضاء أيضاً، أو التهم الموجهة إلى بعض الشركات المالية هي تطبيق مصطلح "الجارور"، أو ما يعني في اللغة الفصحى "الدُّرج". والجارور هو آلية كان يعمل بها في الثمانينيات أيام "الكونتوارات" المالية، إذ كان صاحب الكونتوار يحتفظ بأموال زبائنه في الجارور بدلاً من تشغيلها. أمّا اليوم فعدم استخدام أموال المتداول أو العميل يدرج ضمن مادة "إدارة المخاطر"، وهذا اختصاص يدرّس في الجامعات، وهو تالياً ليس ذنباً أو تهمة. ويعني أنّ الشركات الموجودة في لبنان لا توظّف كامل المبلغ المراد تداوله أو الوديعة في الخارج، إنّما تحتفظ بجزء من المبلغ في الداخل. وخصوصاً بعد تعرّض مصارف عالمية وشركات تأمين عملاقة للإفلاس في السنوات الأخيرة. وهذا ما يحصل على سبيل الذكر مع شركات التأمين التي لا ترسل كلّ مبلغ التأمين إلى معيدي التأمين، بل جزءاً منه. وكذلك بين المصارف… وعليه ليس احتفاظ الشركات المرخّصة بهذه المبالغ في جواريرها في الداخل تهمة لها بالاحتيال أو بسواه.

الحلّ بحسب أوساط مالية يكمن أولاً في:

- بتّ هيئة الأسواق المالية طلبات إنشاء الشركات المالية المتوقفة منذ عامين وهي رخص تتعلق بخمس فئات أساسية، هي: الاستشارات. الترتيب. التعامل في البورصة. الإدارة. الحفظ. وقد يكون من الشركات الملاحقة اليوم شركات لا تبتّ هيئة الأسواق المالية طلب تراخيصها رغم إكمالها كلّ الملّفات كما ذكرنا في أكثر من مقال سابق.

- تعديل أنظمة هيئة الأسواق المالية لتراعي المعايير الاوروبية من حيث الهامش والحدّ الأدنى المطلوب للتداول، إضافةً إلى تطوير تلك الأنظمة لتواكب التطور السريع لتكنولوجيا المال ووسائل الدفع والتحاويل.

- تفعيل محكمة هيئة الأسواق المالية المنوط بها النظر بمثل هذه القضايا كونها صاحبة الاختصاص والمعرفة في هذا المجال المعقّد والسريع التبدل.

كما تبدي تلك المصادر المالية استغرابها من الخلط في الملاحقات بين "دكاكين" البورصة التي تنشط في زواريب الأحياء والشوارع ولا تخضع لأية رقابة إدارية أو تنظيمية، وتؤدي إلى "خربان البيوت"، وبين الشركات المرخّصة في الخارج وتعمل في لبنان من دون تراخيص أو أذونات، ولكن تخضع لمعايير الامتثال والتصاريح الأوروبية.

خالد أبو شقرا 

اقتصاد

يلفت موقع "اخر الاخبار" انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره